Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
information
24 mai 2012

من أخبار كبار المفكرين و الأدباء و الفنانين و العلماء و العظماء 3/1

يقرأ للدكتور هاشم صالح،جزاه الله تعالى خير الجزاء بحث قيم تحت عنوان

 بين الأدب و الفن و النفس

 بين العبقرية و الجنون

و لأهمية هذا  العمل  الفكري العظيم،و توسيعا ،و تعميما لدائرة الانتفاع بما انطوى عليه من أخبار هامة  أنشره في 03 حلقات   للاطلاع عليه ، و الاعتبار بقصص صناع التاريخ الأنساني  من كبار المفكرين الأدباء و الفنانين، و العلماء و العظماء الذي ملأت أسماؤهم  الدنيا،و الاستفادة منه، و الإفادة به  بعون الله و توفيقه 1/3

       (هناك شعرة رقيقة جداً تفصل بين العبقرية والجنون)

(مثلما أن المرض يحيط بالصحة من كل الجهات فإن الجنون يحيط بالعقل من كل الجهات) لودفيغ فتجنشتاين...

منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون بأن هناك علاقة بين العبقرية والجنون. وكانوا دائماً يتحدثون عن العبقري بشيء من التهيب والوجل، فهو شخص غريب الأطوار معقد الشخصية يختلف عن جميع البشر، والواقع أننا إذا ما استعرضنا أسماء كباراً لكتاب وجدنا أن معظمهم إن لم يكن كلهم كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية بل إن بعضهم دخل في مرحلة الجنون الكامل. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: هولدرلين ونيتشه، وجيرار دونيرفال، وأنطونين أرتو، وفان كوخ ، ودو موباسان، وفيرجينيا وولف، وشومان، وألتوسير،(1) الخ..

وقد طرح أحدهم على الكاتب الفرنسي أندريه موروا هذا السؤال: هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب الكاتب الكبير: لا الأصح أن نقول أنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين.. فالعصاب يا سيدي، هو الذي يصنع الفنان، والفن هو الذي يشفيه(2). وكان جواباً مقنعاً ورائعاً. فالواقع أنه لولا العصاب لما كرس أشخاص من أمثال بلزاك أو ديستويفسكي أو فلوبير أنفسهم لفن الكتابة. ولولا أنهم نجحوا في هذا الفن وقدموا لنا روايات خالدة لما نجوا هم أنفسهم من مرض العصاب. هذه هي الدائرة المغلقة التي تجمع بين الإبداع والمرض أو بين العبقرية والجنون. ولكن السؤال المطروح هو: لماذا يسقط في ليل الجنون حتى أولئك الذين أبدعوا إبداعاً كبيراً ؟ لماذا لم يحمهمالإبداع أو الإنتاج الإبداعي من الجنون؟ فلا أحد يشك في أن نيتشه من كبار الفلاسفة، ومع ذلك فقد جن بشكل كامل في أواخر حياته وظل مجنوناً لمدة أحد عشر عاماً حتى مات سنة 1900 ولا أحد يشك في أن هولدرلين هو واحد من أهم الشعراء في العالم، ومع ذلك فقد أمضى نصف عمره تقريباً في بحر الجنون... والواقع أنه تصعب الإجابة عن هذا السؤال، ولكن ربما التقينا به في مرحلة لاحقة، مهما يكن من أمر فإننا نظل متفقين مع أندريه مورو على القول بأن الفن يشفي من العصاب بشكل عام، ولولاه لجن معظم أولئك الكبار الذين سجلت أسماؤهم على صفحات التاريخ، ويكفي أن نستعرض سير حياتهم التي كتبت بعد وفاتهم لكي نتأكد من ذلك، وتكمن عظمتهم بالضبط في أنهم تجاوزوا عصابهم أو عقدتهم النفسية المتأصلة عن طريق الإبداع. فلا ريب في أن الإبداع يحرر من العقد ويعطي الشخصية ثقة بنفسها.

لماذا أتحدث عن هذا الموضوع الآن ؟ ولماذا اخترته للكتابة في هذه الدراسة المطولة، وكان لهذا عدة أسباب:

أولها أنه كان يعتمل في نفسي منذ زمن طويل. وثانيها أنه يمثل نوعاً من" التابو " أو المحرمات فيما يخص الثقافة العربية. فلا أحد من الكتاب العرب يجرؤ على الاعتراف بأنه مصاب بعقدة نفسية معينة أو بعصاب معين.

نقول ذلك على الرغم من أن هذا الأمر أصبح شائعاً ومعترفاً به لدى الكتاب الغربيين ولم يعد يثير أية حساسية، ولذلك فإني سأقصر دراساتي هنا على تاريخ الثقافة الغربية لكيلا أحرج أحداً. وثالثها، وربما أهمها، من أجل تبديد ذلك الوهم الشائع والمخيف الذي يحيط بكلمة عصاب، أو عقدة نفسية، أو جنون. فما دمنا لا نتجرأ على فتح هذا الملف والتحدث عنه، فإنه سيظل محاطاً بالغموض والأسرار والمخاوف. والواقع أن الجنون بالمعنى الذي نقصده، أي الجنون الإبداعي، ليس مخيفاً إلى مثل هذا الحد بل ربما كان محبباً وقريباً إلى النفس. وهو على أي حال لا يؤذي أحداً، اللهم إلا صاحبه... وكان يمكن أن استخدم محله كلمة التوتر الداخلي أو المعاناة أو الاضطراب النفسي الذي يدفعإلى الإبداع أو الذي يترافق مع الإبداع . فالشخص المتوازن كلياً، أي التافه والغبي لا يمكنه أن يشعر بأي حاجة للإبداع..

من أجل الاستئناس بهذا الموضوع يستحسن بنا أن نعود إلى الماضي لكتابة مقدمته التاريخية. يبدو أن أفلاطون كان أول من انتبه إلى هذه النقطة عندما قال بأن العباقرة يغضبون بسهولة ويخرجون عن طورهم. إنهم يعيشون وكأنهم خارج الزمن والوجود، وذلك على عكس الناس العاديين. ولكن أرسطو تلميذ أفلاطون ، هو الذي نظر لهذه العلاقة بشكل فلسفي محكم. وقد طرح هذا السؤال: لماذا يبدو جميع الرجال الاستثنائيين من فلاسفة وعلماء وشعراء وفنانين أشخاصاً سوداويين؟ نلاحظ أن أرسطو يستخدم كلمة الرجل الاستثنائي بدل العبقري، والسوداوي بدل المجنون. والواقع انه أقرب بذلك إلى تصورنا الحديث. فنحن لم نعد نقبل بكلمة العبقري أو العبقرية بسهولة، وإنما نفضل عليه تعبيراً أقل ضخامة أو أسطورية. ولم نعد نستخدم كلمة الجنون المرعبة وإنما كلمات حديثة أخرى من اختراع الطب النفسي كالاضطراب الذي يصيب المزاج ويجعله حساساً جداً أو متحفزاً جداً. ويقول أرسطو بأن السويداء تبتدئ بميل الإنسان إلى الوحدة والعزلة والتأمل ثم تنتهي أحيانا بالصرع أو الجنون أو حتى الانتحار. ولكنها لدى المبدعين الكبار تتوقف عموماً عند حد معين لأن الإبداع يلجمها أو يوقفها عند حدها. ثم جاءت الثقافة الرومانية - اللاتينية بعد أرسطو واليونان وأخذت منه هذه الفكرة. ولذلك شاع المثل الذي يقول: لا يوجد شخص عظيم بدون حبة جنون ! وإذا ما انتقلنا بعدئذ إلى القرن الثامن عشر، أي إلى عصر التنوير، وجدنا أن ديادرو هو الذي بلور هذه الفكرة الشائعة التي تربط بين العبقرية والجنون. يقول هذا الفيلسوف الفرنسي:" آه : ما أكبر العلاقة بين العبقري والمجنون. فكلاهما يتميز بميزات خارقة للعادة إما باتجاه الخير وإما باتجاه الشر. فالمجنون يسجن في المصح العقلي والعبقري نرفع له التماثيل !..(3) ثم جاء القرن التاسع عشر وتأسس علم الطب النفسي لأول مرة على أسس حديثة. وأكد على وجود هذه العلاقة الوثيقة بين العبقرية والجنون. فالشخص العبقري لا يمكن أن يكون طبيعياً على طريقة الناس العاديين. يقول عالم الطب النفسي الكبير إيسكوريل بأن الشخصيات الكبرى في التاريخ هي شخصيات"مرضية" ويضرب على ذلك مثلاً لوثي وباسكال، وجان جاك روسو، الخ... وقد استعاد هذه الفكرة بعده طبيب نفسي أقل شهرة هو " لولوت " الذي كتب السيرة الذاتية المرضية لشخصيتين كبيرتين هما: سقراط وباسكال وكان عنوان الأولى: " شيطان سقراط " والثانية " تعويذة باسكال " فالعبقري في رأيه شخص ممسوس أو مسكون من الداخل من قبل شيطان العبقرية. وقد عرفت العرب هذه الفكرة في الماضي عندما تحدثوا عن "وادي عبقر "، والإلهام وشيطان الشعر... وقد أراد هذا الطبيب النفساني أن يستخدم حالة سقراط وحالة باسكال من أجل كتابة تاريخ الهلوسات . فالشخصيات الاستثنائية مهووسة بشيء ما لاتدري حتى هي ، كنهه بالضبط. وهذا هو سر عبقريتها. وفي عام 1859 كتب "مورو دوتور" وهو طبيب نفساني دراسة تحليلية لشخصية الشاعر جيرار دونرفال الذي كان قد انتحر قبل وقت قريب. وأثبت فيها أنه كان مصاباً بتهيج هوسي دوري، هو السبب في إبداعه. فحالة الإبداع هي حالة هوسية يبلغ فيها التهيج حده الأقصى. ولو أن الشعراء والكتاب العرب تحدثوا لنا عن حالتهم النفسية أثناء عملية الإبداع لقدموا لناإضاءات مهمة عن العلاقة بين التوتر والإبداع. ولكنهم لا يتجرؤون على ذلك خشية أن ينعتوا بالجنون !..

نقول ذلك على الرغم من أن بعضهم قد انتحر بسبب هذه المعاناة المتوترة جداً، ونضرب عليهم مثلاً الشاعر الكبير خليل حاوي. لكن الشعراء والمفكرين الأوروبيين لم يعودوا يخشون من ذلك بعد أن أزال التحليل النفسي تلك الهالة المرعبة التي كانت تحيط بالجنون والأمراض النفسية والعقد. بل إن بعضهم يفتخر بها للدلالة على مدى إبداعه وعبقريته ثم من أجل التمايز والخصوصية. والواقع أن مفكري أوروبا وشعرائها وفنانيها قد دفعوا ثمن تشكل الحداثة باهظاً. فمن نيتشه إلى بودلير إلى رامبو إلى هولدرلين إلى أنطونين أرتوإلى ميشيل فوكو إلى لويس ألتوسير إلى إدغار ألان بو إلى فيرجينيا وولف إلى كافكا إلى لوتريامون، نجد أن القائمة طويلة من أولئك الذين جنوا أو عانوا أو انتحروا.. نعم إن هناك علاقة بين التوتر النفسي والإبداع، ولكن ليس كل عبقري مجنوناً ، وليس كل مجنون عبقرياً ، فالعلاقة بينهما أكثر تعقيداً مما نظن. وهذا ما سنتعرض له تفصيلا فيما يلي:

يقول بعضهم بأن هناك نوعين من العبقريات. فهناك العبقرية الصاعقة، أي التي تنفجر انفجاراً عفوياً كالشلالات والينابيع، أو حتى كالزلازل والبراكين (وهذه هي حالة رامبو مثلاً أو هولدرلين أو خصوصاً نيتشه ). وهناك العبقرية الهادئة، المتدرجة التي تصنع نفسها عن طريق الصبر والمثابرة والعمل المتواصل (وهذه هي حالة فلوبير ). ولكن العبقري في جميع حالاته يكون عادة كائناً لا اجتماعياً، يميل إلى العزلة والوحدة والهامشية. لنضرب على ذلك مثلا محسوساً حالة الشاعر الفرنسي الكبير: آرثر رامبو. يقول بول كلوديل عنه: كان رامبو صوفياً في الحالة المتوحشة، أي في الحالة القسوى. كان نبعاً ضائعاً يتفجر من أرض ريانة. وأما جان كوكتو فيقول عنه هذه الكلمات الصائبة: لقد سرق رامبو جواهره من مكان ما. ولكن من أين؟ لا أحد يعرف. هذا هو السر (بالطبع فإنه يقصد بجواهره قصائده ). لقد تحول رامبو إلى أسطورة تستعصي على التفسير. فلم يعرف التاريخ عبقرية مبكرة مثل عبقريته إنه كالشهاب الذي ما إن اشتعل حتى احترق ! من المعلوم أن أشعاره كلها كتبت خلال أربع سنوات: أي من سن السادسة عشرة إلى سن التاسعة عشرة !.. هل يعقل أن يولد عبقري في مثل هذه السن المبكرة؟ ولذا رأى بعضهم أن القدرة الإلهية هي التي ألهمته وفجرت في جوانحه العبقرية الشعرية التي تتجاوز كل عبقرية في اللغة الفرنسية، إذا ما استثنينا بودلير. راح رامبو يمثل في تاريخ الشعر الفرنسي الطهارة البكر، أو البراءة الأصلية التي لا تشوبها شائبة. لقد اخترق رامبو سماء الشعر الأوروبي كالنيزك المارق: أي بسرعة البرق.

ثم هجر بيته وقريته وشعره، بل وتنكر حتى لشعره وراح يعيش حياة مغامرته المعروفة، في بلاد العرب في عدن واليمن. هذه هي العبقرية المتوحشة أو المتفجرة : بداية مبكرة إبداع خاطف، نهاية قبل الأوان. أما الروائي مارسيل بروست صاحب "بحثاً عن الزمن الضائع " فكان يرى أن العبقرية تجيء بشكل مفاجئ، أي في اللحظة التي لا نتوقعها. إنها تنفجر كالإشراق المباغت، أو كالإلهام الصاعق. وعندما يقول ذلك فإنه يعرف عما يتحدث لأنه شهد تلك اللحظة وعاشرها مثل بقية المبدعين الكبار. أما الشاعر سان جون بيرس فيصف تلك اللحظة بأنها "الصاعقة العذراء للعبقرية"، ويعترف كبار الكتاب بأنهم ليسوا هم الذين يكتبون أفكارهم، وإنما أفكارهم هي التي تكتب نفسها من تلقاء ذاتها، أو من خلالهم. وأتذكر بهذه المناسبة الحكاية التالية التي حصلت لي في جامعة دمشق. كنا في عام 1974- 1975 طلاباً في قسم الدراسات الأدبية العليا. وكان الناقد إحسان عباس يأتينا من بيروت مرة أو مرتين في الشهر لكي يلقي علينا دروساً نقدية حول الشعر الحديث. ولكن قبل التوصل إليه راح يتحدث عن الشعر الكلاسيكي السابق له، شعر بدوي الجبل وجيله.

وقال لنا بأنه سمع مرة بدوي الجبل يقول بأنه ليس هو الذي يكتب أشعاره ، وإنما هي التي تكتب نفسها بنفسها، فهي تجيئه وهو ماش أو نائم أو صاح وتنزل عليه كالإلهام. ويجد نفسه عندئذ وهو "يدندن" بها كما هو على غير علم منه. وما عليه عندئذ إلا أن يسجلها بسرعة على الورق قبل أن تتبخر وتضيع.. وأتذكر أن إحسان عباس قد أبدى بعض الشكوك فيما يخص هذه النقطة واعتبرها أحدى مبالغات الشعراء. ولكني الآن، وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه الحكاية، أميل إلى تصديق بدوي الجبل أكثر من ذي قبل، دون أن يعني ذلك إنكار دور الصنعة والجهد في إنتاج القصيدة.

فالمبدعون الكبار ينفجرون بالإبداع انفجاراً . ربما كان مايبدعونه يعتمل في داخلهم ويختمر لفترة طويلة، ثم تجيء فجأة لحظة الحسم التي لا يختاروها هم ، وإنما تختار هي نفسها بنفسها رغماً عنهم. مهما يكن من أمر فإن انفجار اللحظة الإبداعية قد يجيء بعد مرور الكاتب بأزمة، أو مباشرة بعد الصحو والخروج من الحلم : أي في حالات التنويم المغناطيسي تقريباً، والهلوسة، أو أحلام اليقظة.

ولكن هذه الحالات الإبداعية نادرة، ولذلك يحاول بعض الكتاب إثارتها في أنفسهم عن طريق تناول المخدرات أو شرب الكحول.. نضرب عليهم مثلاً نيتشه أو بودلير أو سارتر في عصونا الحاضر. فقد عرف عنهم تناول هذه"المنبهات" من أجل إيقاظ وعيهم الإبداعي وتحريكه. ولكن العملية خطرة وقد تؤدي إلى نتائج مزعجة. ولذلك يمكن القول بأن أفضل اللحظات الإبداعية هي تلك التي تجيء بشكل طبيعي لا مصطنع. وهي لحظات قصيرة وخارقة، ولكن تأثيرها يتجاوز الدهور، يكفي أن نفكر هنا ببعض هذه اللحظات الاستثنائية التي غيرت وجه التاريخ: ليلة 10 نوفمبر 1619، حيث نزل الإلهام على ديكارت وتوصل إلى الحقيقة. ثم يوم 13مايو 1797، أي قبل ما يزيد على 200 سنة حيث نزل الإلهام على الشاعر الألماني الكبير نوفاليس. ثم صيف 1831 حيث يشهد جوته فترة الهام مكثفة.. ولكن انفجار هذه اللحظات العبقرية في وعي أصحابها لا يمر عادة بسلام. وإنما يدفع ثمنه غالياً أحياناً . صحيح أنه يحرر الشخصية من عقدها وأوجاعها، صحيح أنه يحلق بها في الأعالي، أو أعلى الأعالي ولكنه يسقط إلى الحضيض بعدئذ. ثم تظل دائماً متأثرة به، حتى لكأنها تئن تحت وطأته. فليس كل الناس يستطيعون تحمل الإلهام، خصوصاً إذا ما كان منفجراً كالحمم من أفواه البراكين، وخصوصاً إذا ما نزل كالصاعقة. ولكن عدد الأشخاص الذين يشهدون مثل هذه اللحظات الاستثنائية قليل في التاريخ. لنتوقف هنا قليلا عند لحظة ديكارت من أجل تشريحها من الداخل ومحاولة فهم أبعادها. من المعروف أن الفيلسوف الفرنسي كان في بداية شبابه شخصاً ضائعاً لا يعرف ماذا يفعل بحياته. كان مغامراً يذهب من بلد أوروبي إلى آخر لكي يطلع على"كتاب العالم" كما يحب أن يقول: أي لكي يقرأ العالم ويطلع عليه كما تقلب صفحات كتاب، وقد انخرط في جيش أحد الأمراء في هولندا. وعندما اختلى بنفسه في غرفته في المعسكر جاءته الأحلام الثلاثة المرعبة التي هزته هزاً وكادت تودي به (4). ولكن العناية الإلهية شاءت أن تكون هداية له نحو الحقيقة التي يبحث عنها دون علم منه. لقد كانت ليلة ميلاد تلك التي عاشها ديكارت في العاشر من نوفمبر، ولولا حلم الله وعفوه لقضت عليه. وهكذا ولدت فلسفة ديكارت بعد مخاض شديد البأس. ونتجت عن تلك الليلة المنهجية العقلانية التي حكمت كل أوروبا طيلة ثلاثة قرون (أي حتى اليوم بشكل من الأشكال. أنظر المنهجية الديكارتية. أو العقلانية الديكارتية ).

وأما نوفاليس فقصته مختلفة. فقد شهد لحظة الإلهام الشعري في 13 مايو 1797، وشعر بفرح لا يوصف وحماسة خاطفة دامت عدة ثوان فقط. ولكنها أضاءته من الداخل بشكل لم يسبق له مثيل. وابتدأ عندئذ يكتب أشعاره الخالدة. هكذا نجد أن الإلهام جاء بعد لحظة غير طبيعية، لحظة تفوق كل اللحظات. ومن يعشها أو يذق طعمها لا يعود ينساها. والواقع أن هذه اللحظة جاءت بعد فاجعة حقيقية أصابته. فقد ماتت خطيبته وحبيبة عمره "صوفي" بمرض السل وعمرها لا يتجاوز الخمسة عشر ربيعاً. ثم مات أخوه بعدها مباشرة. وقد اعتملت الأشياء في داخله واختلجت وتفاعلت حتى انفجرت أخيراً في لحظة إلهام مدوية . يقول نوفاليس في تفجعه على حبيبته التي ماتت في عمر الزهور"رحت أنحني" وأبددالقبر وتراب القبر في نفسي. وأصبحت السنين ثواني وشعرت بحضورها، كدت ألمسها، شعرت بأن القبر سوف ينشق عنها فتخرج منه حية معافاة كما كانت، كما كنت أعرفها.."(5)، وقد كتب كل أعماله الشعرية في الأعوام الثلاثة التي تلت تلك اللحظة لحظة انفجار الإلهام والعبقرية في داخله. وما لبث أن مات هو أيضاً بمرض السل عام 1801 وعمره لا يتجاوز الثلاثين عاماً.

وأما عن جوته فحدث ولا حرج. فهذا الرجل الذي يعتبر مفخرة ألمانيا كلها لم يعش قرير العين. ولم يخل من الأزمات والهزات النفسية المؤلمة على عكس ما نتوهم. هو أيضا دفع ثمن إبداعه، أو ثمن عبقريته، باهظاً. وقد واتته الجرأة لكي يعترف في بعض اللحظات بأنه مريض نفسياً ، وبأنه يعاني معاناة هائلة لا يعرف كنهها ولا سببها. ولذلك استنتج أن هناك علاقة بين العبقرية وبين المرض النفسي أو العقد النفسية التي تصيب الشخصية. وربما لولا هذه العقد ومحاولة التغلب عليها لما كان الإبداع. فالشخصية المريضة لا تستطيع أن تتوازن إلا من خلال الإبداع. فالتناقض بين المبدع والعالم يكون حادا جداً إلى درجة أنه ينكد عيش الفنان ولا يدعه يستمتع بالحياة إلا في لحظات قليلة. ولذا يمكن أن نقول في ختام هذه الدراسة ينبغي ألا نحسد العباقرة كثيراً على شهرتهم، ففي بعض اللحظات يتمنون لو أنهم لم يولدوا.

تحدثنا عن العبقريات السريعة التي تلمع فجأة ثم تنطفئ كعبقرية رامبو مثلاً. لكن هناك عبقريات من نوع آخر، عبقريات بطيئة تتطلب وقتاً طويلاً وصبراً قبل أن تنضج وتتفتح. والواقع أن معظم العباقرة يتميزون بهذه الخاصية: الرغبة الكبيرة في الصبر والمثابرة عل نفس الخط لفترة طويلة من الزمن. إنهم لا ييأسون بسهولة ولا يتراجعون عن الهدف الذي وضعوه نصب أعينهم. يقول ألفريد دوموسيه بهذا الصدد ما يلي: لا توجد عبقرية حقيقية بدون صبر. وبالتالي فإن العبقرية لاتتشكل بين عشية وضحاها، وإنما هي خاتمة لمسار طويل عريض.

ويرى بودلير أن الإلهام لا ينزل علينا فجأة من السماء وإنما هو بالأحرى نتيجة للتدريب اليومي المستمر والمتواصل والدؤوب. نقول ذلك ونحن نعلم مدى القلق الذي يشعر به الكاتب أمام الصفحة البيضاء فهو لايستطيع أن يملأها إلا بشق الأنفس، وأحياناً لا يستطيع أن يكتب جملة واحدة. وقد عرف أحد الكتاب الانجليز العبقرية قائلاً بأنها نتيجة التعب والجهد بنسبة 99% ونتيجة الإلهام بنسبة 1% فقط ! وهذا دليل على أن الجهد هو الأساس، وأما ما تبقى فيجيء بعد بذل الجهد لا قبله. مهما يكن من أمر يبدو أن العناد هو أحدى الصفات الأساسية التي يتميز بها العباقرة. فالناس العاديون سرعان ما يملون بعد فترة من الزمن إذا لم يصلوا إلى نتيجة. وأما العباقرة فيظلون مصرين على نفس الخط رغم كل الخيبات والعقبات حتى يصلوا إلى نتيجة في نهاية المطاف.

وطالما تحدث الناس عن أسطورة بلزاك وقدرته الرهيبة على العمل خصوصاً ليلاً. فقد كان يغلق النوافذ عليه بدءاً من الساعة العاشرة مساء ثم يحضر "طنجرة"  كاملة من القهوة ويبتدئ الكتابة حتى الصباح دون توقف.

وهكذا كان يشتغل خمس عشرة ساعة يومياً، بعد أن يبتلع عشرات الفناجين من القهوة. ولولا ذلك لما استطاع كتابة كل هذا الإنتاج الضخم المتمثل بالكوميديا البشرية، وهو لم يعش أكثر من خمسين عاماً ! نعم إن العبقرية بحاجة إلى جهد جهيد، ولا تنزل علينا كهدية من السماء. يقول بلزاك في إحدى رسائله إلى حبيبة عمره مدام فانسكا: إن حياتي تتلخص بخمس عشرة ساعة من العمل، وبالمحن والعذاب، وهموم المؤلف، وصقل العبارات وتصحيحها(6).

ولكن هذا التدريب اليومي المستمر والدؤوب لا يفسر لنا وحده سبب العبقرية. فهناك دارسون أكاديميون يشتغلون ساعات وساعات يومياً دون أن يتوصلوا إلى أكثر من مرتبة دارس جيد أو جامع مفيد للمعلومات، وإذاً فهناك سبب آخر للعبقرية غير الجهد والتعب: إنه الموهبة أو شرارة الإبداع.

فهناك كتاب يمتلكونها، وآخرون لا يمتلكونها. ولذلك نسمعهم يقولون: هذا الكاتب موهوب،وهذا الكاتب عنده شيء، الخ... إذاً فالعبقرية هي نتاج الموهبة والجهد في آن معاً، وقد لا يكون حظ الموهبة فقط 1% كما قال الكاتب الانجليزي، وإنما 50% .

إن فلوبير يجسد في مجال الأدب، المثال الأعلى للمثابرة والمواظبة وبذل الجهد والتعب،. وكان يجلس وراء طاولته من عشر إلى اثنتي عشرة ساعة يومياً لكي يستطيع أن يكتب رواية واحدد كل أربع أو خمس سنوات. ولذلك لم يكتب كثيراً: خمس أو ست روايات طيلة حياته كلها ما عدا "مدام بوفاري" رائعته الخالدة. إنه يشبه المقلين في الشعر العربي القديم الذين اشتهروا بقصيدة واحدة أو عدة قصائد فقط. إنه يشبه عبيد الشعر الذين لا ينفكون يصقلونه ويعيدون النظر فيه أياما وشهوراً وربما سنوات. وطالما تحدث فلوبير عن عذاب الكتابة وكيف أنه يفني الساعات الطويلة. وأحياناً بضعة أيام، لكي يجد الجملة المناسبة أو حتى الكلمة المناسبة. وكم يلعن نفسه أثناء ذلك ويلعن الكتابة والأدب وكل شيء... وأذكر أني عندما زرت بيته الواقع في ضواحي مدينة"روان" على شواطىء نهر السين قبل بضع سنوات فوجئت بمدى التشطيب الذي كان يمارسه على كل صفحة يكتبها. فلا تكاد تقرأ فيها شيئاً واضحاً من كثرة الحذف والتشطيب والإضافة والتصحيح أو التعديل، الخ.. وقد تحول منزله إلى متحف يزوره الزائر متى يشاء كي يستمتع بالجو الذي كان يعيشه صاحب"مدام بوفاري" في القرن التاسع عشر. وعندئذ تستطيع أن تملأ عينيك بجمال الغابة المحيطة أو أن تراقب من النافذة مرور المراكب والسفن كما كان يراقبها فلوبير نفسه قبل قرن وهو جالس وراء مكتبه يسطر"مدام بوفاري"..

نعم إن فلوبير لم يكتب أكثر من خمس أو ست روايات في حين أن كتابنا العباقرة يتحفوننا كل عام أو حتى كل شهر برواية أو ديوان شعري أو كتاب فكري، الخ.. لماذا كل هذا الاستعجال يا أخوان؟ لماذا تحرقون الطبخة قبل أن تنضج؟ فلوبير كان حريصا على ألا يصدر شيئاً قبل أن يستنفد طاقته كلها فيه. يقول في إحدى رسائله إلى عشيقته لويز كوليه:"لقد داخت رأسي وجف حلقي من كثرة ما بحثت عن جملة واحدة. لقد قلبتها على عشرات الوجود ونجرتها وحفرتها، ثم ندبت وشتمت حتى توصلت أخيراً اليها... إنها رائعة، أعترف بذلك. ولكنها لم تولد دون مخاض وعذاب".

هناك خاصية أخرى يتميز بها العباقرة هي: حب الوحدة والعزلة والاستقلالية الشخصية. يكتب أحدهم: لقد قالوا عن العبقري بأنه يشبه المجنون. بمعنى أنه يولد ويموت وحيداً. انه شخص بارد، فاقد الحساسية لا علاقة له بالعواطف العائلية والتقاليد الاجتماعية. ولكن هذه مبالغة بالطبع. والواقع أن العباقرة يحبون العزلة من أجل التفرغ لإبداعهم وإنتاجهم، فلا تستطيع أن تبدع وأنت في زحمة الشارع أو في وسط البشر، ومن المعروف أن العلاقات العامة والاستقبالات والحفلات تأخذ وقتاً كثيراً ولا تسمح للمفكر بأن يتفرغ لنفسه وأفكاره وتأملاته. ولذلك اشتهر المفكرون بحب الوحدة والحرص عليها.

 نضرب عليهم مثلاً شهيراً ديكارت الذي غادر بلاده فرنسا هرباً من المتطفلين والثرثارين الذين كانوا يلاحقونه باستمرار. وكان يشعر بسعادة كبيرة إذ يسكن في حي لا أحد يعرفه فيه، ويمشي في الشارع ولا أحد ينتبه إليه. فالشهرة أيضاً مزعجة وينبغي أن يحمي الإنسان نفسه منها. إن العبقري يتميز بالهامشية والعصيان وعدم الخضوع للتقاليد والأعراف السائدة مثله في ذلك مثل المجنون، ولكن الفرق الوحيد بينه وبين المجنون هو أنه لا ينتهكها بشكل مجاني أو مبتذل أو غير واع. يضاف إلى ذلك أن للعباقرة عاداتهم التي يلتزمون بها وتصبح جزءاً لا يتجزأ منهم.

قلنا سابقاً بأن بلزاك كان يسهر في الليل وينام في النهار. وهكذا كتب معظم مؤلفاته إن لم يكن كلها. وهذه الطريقة في الحياة تعتبر جنوناً بالنسبة للإنسان العادي. فالطبيعي أن تفعل العكس أي أن تنام في الليل وتشتغل في النهار. ولكن العبقري ليس إنساناً طبيعياً . إنه مهووس بمشروعه إلى درجة المرض ومستعد لأن يضحي بكل شيء من أجله. وقد لاحظنا من خلال قراءة سير العباقرة أن معظمهم لا ينجبون الأطفال ولا يكرسون وقتهم لتربية عائلة. فمؤلفاتهم هي أطفالهم، وهم حريصون عليها مثل حرص الرجل العادي على طفله. فديكارت لم يتزوج، وكذلك الأمر بالنسبة لكانط، وسبينوزا، ونيتشه، وسارتر، وميشيل فوكو،الخ.. بالطبع فهناك استثناءات (هيجل مثلاً ). ولكن عموماًفإن العبقري يكرس حياته لشيء واحد فقط: هو إنتاجه وإبداعه.

يضاف إلى ذلك أن عادات العباقرة عجيبة وغريبة وتختلف عن عادات البشر. فمثلاً ينسون أحياناً أن يأكلوا ويشربوا في فترات الابداع، وينسحبوا من الحياة اليومية كلياً لكي يضعوا إنتاجهم مثلما تنسحب المرأة الحامل لكي تضع طفلها. وهكذا عاش مارسيل بروست ومات عام 1922 ضمن ظروف بائسة في غرفة حقيرة لا تحتوي إلا على سرير وكرسي وثلاث طاولات ! وأما " فرانز كافكا " فكان أكثر شذوذاً وغرابة أطوار. كان يفرض على نفسه عادات صحية عجيبة خوفاً من المرض. وكان هوسه اليومي هذا على علاقة بهوسه الابداعي. كان يفرض على نفسه مثلاً الاستحمام بالماء البارد جداً والمثلج، ويمتنع عن تناول الكثير من الأطعمة اللذيذة ويعاقب جسده معاقبة صارمة. وكل ذلك بسبب العصاب الهوسي الذي يلاحقه والذي أدى إلى تفتح عبقريته على الرغم من كل شي ء. وهنا نلمس لمس اليد نقطة التواصل بين العصاب النفسي، وبين العبقرية. يضاف إلى ذلك أن العباقرة متطرفون في عاداتهم على عكس الناس العاديين أو المتوازنين. فمثلاً كان فولتير يشرب خمسين فنجان قهوة في اليوم ! وقل الأمر ذاته عن فلوبير وبلزاك. وذلك لأن القهوة تنبه الأعصاب وتجعلها متحفزة للابداع. وأما بودلير فقد تجاوزها إلى ما هو أخطر: شرب الكحول بشكل مسرف وتعاطي المخدرات. وقد دفعت صحتهم ثمن ذلك غالياً... ولكن في سبيل الابداع كل شيء رخيص.

 378px-Nietzsche1882

Publicité
Publicité
Commentaires
Publicité
Archives
Publicité